Tuesday, 30 June 2015

ورَعٌ محمود ..وورَعٌ مطلوب

ورَعٌ محمود ..وورَعٌ مطلوب



يَهِلُّ علينا شهر رمضان .فتبادِرُ أنفسنا إلى التوبة ؛ تبتغي منه أن يكون مُنطلقا لتصحيح مسار النفس ، و عزمًا على ألا يلتفت أحدنا إلى ماضيه اجتنابا لتكدير الخاطر ، و إقبالا على مستقبله أملا في جعله مُشرقا ..فمن أقبل على ربّه أشرقت له الدنيا .
وهذه النوايا حسنةٌ مطلوبة ؛ وكلما تحلّت بالعزم و الصدق أثمرت ؛ فرأيتَ البدنَ مطيعًا للقلب ، و رأيته يستخفُّ ما كُلِّف به ، يَلتذُّ بالطاعة – و إن ثَقُلَت – وهو عليها مقيم ؛ مستحضرًا عظمة الله في كل أمر ونهي ؛ فتجده حَذِرًا وَجِلا يرجو رحمة ربّه ..

مضى من رمضان ثُلثُه – و الثلث كثير –  والنوايا على هذا القدر في صراعٍ على الثبات يتورّع الصائمون و يحذرون على صيامهم أن يصيبه ما يُفسده ، و يسألون عن كل صغيرة و كبيرة ، و الشك يعمل عمله ليقيم  بين شُبَهِ المُفطرات و بين صحة الصيام برزخَا. و تَرِد على أئمتنا كثير من الأسئلة مصدرها وَرعٌ يَقِظ في النفس ؛ و قلقٌ على صحة الصيام يُنْبئ عن تعظيمٍ لأمر الله : هل الإبرُ مفطرة ؟ و قد أذَّن المؤذن و اللقمة في فمي و ابتلعتها؟ وقد سافرت مسافة كذا وكذا و لم أفطر ؟ و آلمني من جسدي ضرسي أو بطني و تحمّلت حِمل الألم وهو عليّ ثقيل دون أن أترخّص بالإفطار ؟ و هان عليّ ألم كذا وكذا لأن الصوم عزيز ؟ و تجد العامة دينهم العزيمة في ذلك و يجتنبون الرخصة و كأنها شبهة – و هذا وَرَعٌ محمودٌ في نفسه – و إن كنتُ أقول : إن العلم يجعلك تعبد الله على بصيرة ؛ فإن الله لا يريد منك تعذيب نفسك ..وإن الله بك رحيمٌ أشدُّ رحمةً من نفسك لها... و أن الذي فرض الصيام هو الذي شرّع من الرُخص ما يجعل العبادة تَصِلُ بالعبد إلى مقاصدها .

لكن الورع أعمق من هذا بكثير و مقاصد الصيام أكبر من أن تُحصَر في المفطرات ، و ليس الصيام عن الأكل و الشرب ، و أن يمرّ يومك كله حَذِرًا أن يَلج بطنك شيئٌ ما ، و أنت عن قلبك غافلٌ لاهٍ ؛ كأنه غيرُ مَعنيٍّ بشيء في صراعك مع بطنك ، و كأن نفسك بمَعزِلٍ عن هذا الصراع أيضا ؛ لا ترجو لها نصيبًا من زكاةٍ في هذا الشهر الفضيل .

أيّها الصائم : المقصد الأسنى من صيامك أن يُحرّرك من ربقة العبودية مما هو ضروري ، و أن تجتهد في الانتصار على  أقوى شيء قد يُذلك في صراعك أمام الشيطان : شهوة البطن و الفرج ، و أن تكون حرّا لا تخضع لمثل هذه النواميس ؛ و إن كان سلطانها عليك قوي ؛ لكن إرادتك في أن تكون حرّا  أقوى ، فإن انتصرت في هذه ؛ انتصرت في ميادين أخرى ، فتكون حرّ العقل و حرّ البدن و حرّ النفس من مخاوفها و شهواتها ، من أجل ذلك كان الجزاء من جنس العمل فكان جزاء جهادك في طلب هذه الحرية : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ }. متفق عليه

و لكي تصل إلى هذه الحرية فإن وَرَعَك غيرُ كافٍ ، و لن يَكْفُلَ لك خروجك من ربقة العبودية إلى الحرية الخالصة ، فمن الورع ما مرّ عليك آنفا ؛ لكنه لا يقتصر على باب التروك ؛ فليس الورع أن تَحذَرَ الأكل و الشرب و الكلمةَ الفاجرة ، ثم أنتَ مُقصِّرٌ عن آداء الواجب ، مُهملٌ للسنن ، محجوبٌ عن نفع الخلق ، فإن ورعك حينها ناقص ، و أخشى أن تأتي – بإهمالك - ما يَنْقُضُهُ  . لأن في فهمك قصور الورعِ على معاني الحيطةِ و الحذرْ ؛ وهذا غلط !!

و الرخصة من الله عزيمة – إن كانت بشرائطها –وهي دين تَدين الله بها ؛ فمن تمام الورع أن تترخص في مواطن  الرخصة ، فإن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه . و كيف تطلب أعلى مراتب العبودية و أنت تخالف من شَرَّعها ، وقد يكون في ذلك من سوء الأدب مع الله و رسوله ما يَهْدِمُ ورعَك كله قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم {ما بال رجالٍ يتنزهون عن أشياء أترخَّص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم. وفي رواية: أخشاهم وأعلمهم بحدوده له}. البخاري.
و بعدُ :
فما بقي من رمضان استدراكٌ لما مضى . وعبادة الله تَفضُل في مواسمَ ؛ و لكنها لا تقف عندها . و كلما كان همّك الإخلاص زرعت في أيِّ زمن  !!.
تقواكَ زادٌ فاعتقِدْ أنه  **  أفضلُ ما أودعتَه في السِّقاءْ[1]. و السّلامْ

و كتب
الأندلسي




[1] شيخ المعرّة

No comments:

Post a Comment