ورَعٌ محمود ..وورَعٌ مطلوب
يَهِلُّ
علينا شهر رمضان .فتبادِرُ أنفسنا إلى التوبة ؛ تبتغي منه أن يكون مُنطلقا لتصحيح
مسار النفس ، و عزمًا على ألا يلتفت أحدنا إلى ماضيه اجتنابا لتكدير الخاطر ، و
إقبالا على مستقبله أملا في جعله مُشرقا ..فمن أقبل على ربّه أشرقت له الدنيا .
وهذه
النوايا حسنةٌ مطلوبة ؛ وكلما تحلّت بالعزم و الصدق أثمرت ؛ فرأيتَ البدنَ مطيعًا للقلب
، و رأيته يستخفُّ ما كُلِّف به ، يَلتذُّ بالطاعة – و إن ثَقُلَت – وهو عليها
مقيم ؛ مستحضرًا عظمة الله في كل أمر ونهي ؛ فتجده حَذِرًا وَجِلا يرجو رحمة ربّه
..
مضى من
رمضان ثُلثُه – و الثلث كثير – والنوايا
على هذا القدر في صراعٍ على الثبات يتورّع الصائمون و يحذرون على صيامهم أن يصيبه
ما يُفسده ، و يسألون عن كل صغيرة و كبيرة ، و الشك يعمل عمله ليقيم بين شُبَهِ المُفطرات و بين صحة الصيام برزخَا.
و تَرِد على أئمتنا كثير من الأسئلة مصدرها وَرعٌ يَقِظ في النفس ؛ و قلقٌ على صحة
الصيام يُنْبئ عن تعظيمٍ لأمر الله : هل الإبرُ مفطرة ؟ و قد أذَّن المؤذن و
اللقمة في فمي و ابتلعتها؟ وقد سافرت مسافة كذا وكذا و لم أفطر ؟ و آلمني من جسدي
ضرسي أو بطني و تحمّلت حِمل الألم وهو عليّ ثقيل دون أن أترخّص بالإفطار ؟ و هان
عليّ ألم كذا وكذا لأن الصوم عزيز ؟ و تجد العامة دينهم العزيمة في ذلك و يجتنبون
الرخصة و كأنها شبهة – و هذا وَرَعٌ محمودٌ في نفسه – و إن كنتُ أقول : إن العلم
يجعلك تعبد الله على بصيرة ؛ فإن الله لا يريد منك تعذيب نفسك ..وإن الله بك رحيمٌ
أشدُّ رحمةً من نفسك لها... و أن الذي فرض الصيام هو الذي شرّع من الرُخص ما يجعل
العبادة تَصِلُ بالعبد إلى مقاصدها .
لكن
الورع أعمق من هذا بكثير و مقاصد الصيام أكبر من أن تُحصَر في المفطرات ، و ليس
الصيام عن الأكل و الشرب ، و أن يمرّ يومك كله حَذِرًا أن يَلج بطنك شيئٌ ما ، و
أنت عن قلبك غافلٌ لاهٍ ؛ كأنه غيرُ مَعنيٍّ بشيء في صراعك مع بطنك ، و كأن نفسك
بمَعزِلٍ عن هذا الصراع أيضا ؛ لا ترجو لها نصيبًا من زكاةٍ في هذا الشهر الفضيل .
أيّها
الصائم : المقصد الأسنى من صيامك أن يُحرّرك من ربقة العبودية مما هو ضروري ، و أن
تجتهد في الانتصار على أقوى شيء قد يُذلك
في صراعك أمام الشيطان : شهوة البطن و الفرج ، و أن تكون حرّا لا تخضع لمثل هذه
النواميس ؛ و إن كان سلطانها عليك قوي ؛ لكن إرادتك في أن تكون حرّا أقوى ، فإن انتصرت في هذه ؛ انتصرت في ميادين
أخرى ، فتكون حرّ العقل و حرّ البدن و حرّ النفس من مخاوفها و شهواتها ، من أجل
ذلك كان الجزاء من جنس العمل فكان جزاء جهادك في طلب هذه الحرية : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي
وَأَنَا أَجْزِي بِهِ }. متفق عليه
و لكي
تصل إلى هذه الحرية فإن وَرَعَك غيرُ كافٍ ، و لن يَكْفُلَ لك خروجك من ربقة
العبودية إلى الحرية الخالصة ، فمن الورع ما مرّ عليك آنفا ؛ لكنه لا يقتصر على
باب التروك ؛ فليس الورع أن تَحذَرَ الأكل و الشرب و الكلمةَ الفاجرة ، ثم أنتَ مُقصِّرٌ
عن آداء الواجب ، مُهملٌ للسنن ، محجوبٌ عن نفع الخلق ، فإن ورعك حينها ناقص ، و
أخشى أن تأتي – بإهمالك - ما يَنْقُضُهُ .
لأن في فهمك قصور الورعِ على معاني الحيطةِ و الحذرْ ؛ وهذا غلط !!
و الرخصة
من الله عزيمة – إن كانت بشرائطها –وهي دين تَدين الله بها ؛ فمن تمام الورع أن
تترخص في مواطن الرخصة ، فإن الله يحب أن
تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه . و كيف تطلب أعلى مراتب العبودية و أنت
تخالف من شَرَّعها ، وقد يكون في ذلك من سوء الأدب مع الله و رسوله ما يَهْدِمُ
ورعَك كله قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم {ما بال
رجالٍ يتنزهون عن أشياء أترخَّص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله
وأخشاهم. وفي رواية: أخشاهم وأعلمهم بحدوده له}. البخاري.
و بعدُ :
فما بقي
من رمضان استدراكٌ لما مضى . وعبادة الله تَفضُل في مواسمَ ؛ و لكنها لا تقف عندها
. و كلما كان همّك الإخلاص زرعت في أيِّ زمن !!.
تقواكَ
زادٌ فاعتقِدْ أنه ** أفضلُ ما أودعتَه في السِّقاءْ[1].
و السّلامْ
و كتب
الأندلسي
No comments:
Post a Comment