كلمة
عن الرسوخ في العلم..
لأبي
الفضل الأندلسي
بسم
الله الرحمن الرحيم الرحيم
الحمد
لله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده
أمّا
بعد :
فإن
العامّة تقول : "قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه" ، لكن الخاصّة تقول :
"قيمة كل امرئ ما يطلبه..”.
و
من رَامَ الرّسوخَ في العلم والإمامةَ في الدّين استنزف حياتَه ومُهجَتَه و أمضى حُقُبَ عمره ليبلغَ ما بلغَه
الأوّلون من إحقاقِ الحقِّ و إعلائِه و بَثِّه و الصَّدعَ به .
أيُّها
المُحبّ:
اسمع منّي سماعَ من يريدُ أن يتواصَّ معك و
يَشدُّ على يدَيْك لتبلغَ هذه المنزلةَ، فلستُ بأفضلَ منك و لا أعلمَ ، و لكنّ
اللهَ أوصاني و أوصاك فقال :( و تَوَاصَوْا بالحَقّ و تَوَاصَوْا بالصَّبْرِ )
الإخلاصُ
في كلِّ شيءٍ هو جوهرُه و بيتُ القصيدِ فيه وسرُّ العبوديّة لله ، فمن أخلصَ بورك
في قليله وبلغ القمّةَ و إن كان يمشي رويدا ، و يسبقُ الفارغين و مَن خَلَتْ
قلوبهم منه فتنزَّلُ عليه بركاتُ التّوفيقٍ و يُسخِّرُ اللهُ لهُ الزّمنَ ، و
يَطْهُرُ قلبُه فما من فائدةٍ إلّا وترسَخُ في فؤاده.
ثمّ
ليَعتزِلِ النّاسَ و لْيحافظْ على قلبه أن يتلوّث بدَخَنِ النّاس ، فالعلمُ ثقيلٌ
كثيرٌ فضُنَّ بوقتك أن تهدِرَهُ مع من لا يعودُ لقاؤك به بفائدةٍ ، فالهَميمُ
بخيلٌ بوقته ..
قَلّبِ
النّظرَ في سير العلمِ لا تجدُ منهم من بلغ الرّسوخَ إلاّ وله من الرّحلاتِ في طلب
العلم ما يجعلُه غريبا في كلِّ بلدٍ يلتمسُ علمًا ، ليس له مع عامّة الناس شأنٌ ، و
لكنْ شأنُه كلُّه أن يلاقي عالما ينهلُ من
معينِه أو يعلوَ بسنده...
ليس
له من وقته إلّا ما كان للعلم و مع العلم ، و من أجل ذلك لُعِنَتِ الدّنيا , ففي الحديث : "الدّنيا
ملعونةٌ ملعونٌ من فيها إلّا ذكرُ الله و ما والاه أو عالم أو متعلم ، وقد سُئِلَ
مالكٌ عن رجلٍ حُكمَ عليه بالقتل : ما يفعل حتى يَحين قتله ؟ قال: يطلب علما !!؟
و
قد ارتحل كثيرٌ من السلف كجابرِ بنِ عبد الله و عبدِ الله بن أنيس رضي الله عنهما
لأجل حديث واحد فقط...
و
ليس المرادُ أن تكونَ الرّحلة حسّيّة فحسب ، فالدّنيا أصبحت على غير عهدها ولكنْ
عزلةُ النّاس و الرحلةُ إلى أهل العلمِ قائمةٌ و سمِّها إن شئتَ عزلةَ و رحلةَ
شعوريّةً ، تتّخذُ من بيتك صومعةً تعتكفُ
فيها مع أهل العلم و كتُبِهِم ومسموعاتهم ، سيرحلون بك إلى زمنٍ إنْ أشعرَك اللهُ
بلذّتِه رجعتَ على قومك و زمنِك بالمَلَلِ والسَّآمة فلا تجدُ في نفسِك حينها حبًّا
ولا ميلًا لشيءٍ إلا لّهُمْ[1] ..
فهذه
التّضحيةُ تُضاف إلى شرائطِ الرّسوخ...
فَلْتَهُنْ
عليك نفسُك في سبيل هذا المجدِ و حَطّمْ قيودَ الأرض ولا تخلدْ إليها ولا تّركنْ إلى المُتقاعسينَ و لا إلى
السّاكتين عنِ الحقِّ فيمسَّكَ الهوانُ و تَلحقَكَ الذّلةُ .
ثم
عليك بالحفظِ يا طالبَ العلم ، فبَوْنٌ شاسعٌ بين من استودع
قلبَه علمَهُ و بينَ رجلٍ مستودَعُه الكتبُ ، فالرّاسخُ في العلم يحملُ معهُ
علمَهُ و يستحضِرُه ُ متى شاءَ ويكونُ
بذلك عزيزًا ، و تأمّلْ قصّة أبي حامد الغزَّالي حين اعتدى عليه مجموعةٌ من
اللّصوص وهَمُّوا أن يأخذوا كلّ متاعِه،
فتوسّلَ إليهم أن يتركوا كتبَه ، فنظرَ
إليه اللّصُ مُزدريًا..وقال: بئسَ طالبُ العلم أنت..!! لو كنتَ عالمًا لحفظتَها..فتأثّر الغزالي وعرَف
عزّةَ الحفظ فعزم أن يحفظَ ما يتعلّمُه.
و
سوقُ الحقّ اليومَ كاسدةٌ يدخلها فئامٌ من النّاس منهم مَن عَلِمَ الحقّ و
أضمَرَهُ ولم يُبدِه ، توجَّسَ من المخالفِ خيفةً ، وقَعَدَتْ به همّتُه عن إعلاء
الحقّ ، فهذا في هوانٍ، و منهم من عَلِمَ الحقَّ وأدركَه و لكنْ أعجزَهُ عن نشرِه
قلّةُ علمٍ أو ضَعْفُ أسلوبٍ و حجّةٍ تُفصِحُ عمّا في قلبه فعسى أن يُؤْجرَ .
و أهْوَنُ القومِ و أخسُّهم مَنْ عرَفَ الحقَّ و
أدركَهُ و لكنّه لم يّبُثَّهُ لأنّه خالفَ هَواهُ ، فهذا من شرِّ الناَس فإذا أتْبَعَ موقَفَهُ هذا
بمحاربةِ مَنْ نطقَ بالحقِّ ، فلا أُرَاهُ إلّا شيطانًا في مِسلاخ بشر!!
أيّها القارئُ
الحبيبُ : إن أردت أن أصوّرَ لك بعضَ مظاهر الرّسوخ في العلم لِيتجلّى لك منه ما
يشّجِعُك عليه أو تعرفَ مقامَك منه فتلزمَه ، فإليك من المثال ما يُقرّبُ المقال :
هذا محمّدُ بنُ
عبد الوهّابِ إمامٌ مصلحٌ مُجددٌ ، جَدّدَ الملّةَ و بثّ روحَ التّوحيد في الأمّة ،
عَمَدَ إلى أصل الإسلام وهو توحيدُ الألوهيّة ، فألّفَ فيه مؤلّفاً بسيطًا في
مضمونه حوى آياتٍ و أحاديثَ و بعضَ الاستنباطاتِ ، ثم عَمدَ إلى الأسئلة التي لا
ينجو منها بشرٌ قطّ في قبره ، فسمّاها الأصولَ الثّلاثةَ ، ثم عمدَ إلى دحضِ
شُبَهِ أهل القبور ، و اختصرَ كتاباً في سيرة النّبي -صلى الله عليه وآله و سلم- لتكونَ منهاجًا
للمسلم ، و كلُّ مؤلّفاتِه بسيطةٌ و عظمتُها في بساطتها لأنّها توافق الفطرة التي
فطر اللهُ عليها النّاس ، و لعلّه قد وُجِد في زمانه من هو أعلمُ منه ، و لكنّه
كان أكثرَ رسوخاً منهم إذْ دعا إلى الحقّ و جاهدَ في سبيله و صبرَ على تبليغهِ ،
فلا يستوي هُو ومَنْ عَلِمَهُ و لَزِمَ الصّمْتَ...
و كم مِنْ
رَجلٍ بسيطٍ في العلم قد أُوتِيَ غيرةً و شجاعةً في الصّدع بالحقّ ، فكان فيه من رسوخِ العلم بمقدار ذلك.. إذا
تقرّرَّ عندك هذا عَلِمتَ –علّمك الله الخير - فقه حديث النبي- صلى الله عليه وآله
وسلم- لمّا استعاذ من علم لا ينفع فسمّاه
علمًا غير أنه لم ينفع ، إذ لم يُؤْتِ ثمارَه و لذا قال بعض العلماء :( الأمرُ بالمعروف و النهي ُ عن المنكر زكاةُ
العلم ) . و الزّكاةُ واجبةٌ !! فمن تكلّم بالحقّ حيثُ سكتَ عنه الآخرون كان أعلمَ من السّاكت وأكثر رسوخًا
منه ، فأنطَقُهم بالحقّ أرسّخُهُمْ علمًا.
ولعلّك أن
تبذلَ علمًا بسيطا مع بركةِ إخلاصك فتزدهرَ آخرتُك : رأى أحدُهم الخليلَ بن أحمد َ
الفراهيدي في المنام فسأله : ما فعلَ اللهُ بك ؟ قال: أدخلَني ربّي الجنّة . قال :
بِمَ ؟ قال علّمْتُ عجوزا الفاتحة !! مع أنّ الخليل من عباقرة الدّنيا و يكفيه
عظمةً تأسيسُه لعلم العروض و إنشاؤه أوّلَ معجمٍ للعرب : معجم العين...
وخذ هذا المظهرَ من الرّسوخ حين يبلغُ بصاحبه مبلغًا يجعلُه يصمُتُ أمام أساطين العلم إذا حلَّتْ فتنةٌ بالمسلمين و اختلط الحقّ بالباطل ، وغشيَ الحقَّ ليلٌ حَجَبَهُ عن الظّهور المُبين , تجدُ العلماء الأكابرَ يصمُتُون و للنّاس يسْعَوْنَ واعِظِينَ مذكّرِين بالتّوبةِ و العَودَةِ إلى هديِ السّلفِ و منهجِ النّبوّةِ فيصمتُ من يرى نفسَه دون ذلك وصَمْتُهُ حينذاك رسوخٌ في العلم !! و إنزالٌ لنفسه منزلتَها ، ألا ترى أنّ العلماءَ قالوا :” مَن قال لا أدري فقد أفتى !؟ فمع أنّه قال العَدَمْ ! إلا أنّ ذلك عينُ الحكمة، و الله تعالى يقول : (و لا تَقْفُ ما ليسَ لك به علمٌ)
وخذ هذا المظهرَ من الرّسوخ حين يبلغُ بصاحبه مبلغًا يجعلُه يصمُتُ أمام أساطين العلم إذا حلَّتْ فتنةٌ بالمسلمين و اختلط الحقّ بالباطل ، وغشيَ الحقَّ ليلٌ حَجَبَهُ عن الظّهور المُبين , تجدُ العلماء الأكابرَ يصمُتُون و للنّاس يسْعَوْنَ واعِظِينَ مذكّرِين بالتّوبةِ و العَودَةِ إلى هديِ السّلفِ و منهجِ النّبوّةِ فيصمتُ من يرى نفسَه دون ذلك وصَمْتُهُ حينذاك رسوخٌ في العلم !! و إنزالٌ لنفسه منزلتَها ، ألا ترى أنّ العلماءَ قالوا :” مَن قال لا أدري فقد أفتى !؟ فمع أنّه قال العَدَمْ ! إلا أنّ ذلك عينُ الحكمة، و الله تعالى يقول : (و لا تَقْفُ ما ليسَ لك به علمٌ)
قالوا
هذا غيرُ جائزٍ عندنا ** و من أنتم حتى يكونَ لكم عندُ ..!!؟
حلّتْ
بالمسلمين بعد وفاة النبي -صلى الله عليه و آله و سلم- فتنةٌ عظيمةٌ وهي مقتلُ عثمانَ -رضي الله عنه- وتَبِعَتهَا
موقِعَةُ صفّين و الصّحابةُ حينها عشرةُ
آلافِ صحابيٍّ ، فما شارك فيها إلا نحوُ مائةِ صحابيٍّ وقيلَ ثلاثين !!! و الباقي اعتزلوها وصمَتوا ، و منهم مَنْ
كان من أهل الشّورى كسعدِ بن أبي وقّاصٍ ،
فليس ذلك منهم عيٌّ وجبنٌ ، بلْ حكمةٌ و رسوخٌ ..دونَك فاعجبْ .
قال صاحبنُا و حبيبُنا : فارس الحمادي أبو العباس : "فالواجبُ على طلبة العلم اليومَ الهربُ كلَّ
الهرب منَ الخَوض في النّوازل ، والسّياسة ، والجدال. وعليهم بالرّسوخ في العِلم !
وأمّا إنكارُ المنكر فيكونُ بعلمٍ ودليلٍ وبيّنةٍ ، وقبلَ كلِّ هذا يكونُ بـإخْــلاصٍ!
ولا يكونُ بسخريةٍ وزخرفةِ كلامٍ ! ليس هذا من شيَمِ أهلِ الحقِّ...!
قال ﷺ : ((مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ
تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ))...
و تذكّروا قول العالم الرّبّاني الذي كان يَخشى على نفسه الفتنة و يخشى ذلك على
الأمة...سئلَ عن سورية و ما يحدث... قال كلمة و لم يزد ، قال :” فِـتْـنَـةٌ"
! أي لا يُعرَفُ فيها الحقُّ من الباطل ...إ.هـ
فإذا
رأيتَ طالبَ العلم الغُمرَ يزاحمُ الكبارَ فيما لا يُحسِنُه ، و يتقدّمُ عليهم
مُفاخِرًا بعلمه فانْبُذْهُ و لا تلتفتْ إليه ، و قُلْ لَهُ ما قالتْهُ العربُ من
قبلُ بصيغة المؤنّث !! : مَكانَكِ تُحمَدي أو تستريحي .... و السّلامُ .
و
كتب حامدًا لربِّه مُصليًّا على نبيّه..
أبو
الفضل الأندَلسيّ
(تفضّل
الشيخ الدكتور محمد هشام الطاهري (أبو صلاح) بقراءة المقال فصحح لي
الاخطاء و صوّبها لي ، فاستفدتُ وتعلّمت منه ، جزاه الله عني كل خير)