Thursday, 27 March 2014

كلمة عن الرسوخ في العلم..

كلمة عن الرسوخ في العلم..
لأبي الفضل الأندلسي

بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده
أمّا بعد :

فإن العامّة تقول : "قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه" ، لكن الخاصّة  تقول :  "قيمة كل امرئ ما يطلبه..”.
و من رَامَ الرّسوخَ في العلم والإمامةَ في الدّين استنزف حياتَه  ومُهجَتَه و أمضى حُقُبَ عمره ليبلغَ ما بلغَه الأوّلون من إحقاقِ الحقِّ و إعلائِه و بَثِّه و الصَّدعَ به .
أيُّها المُحبّ:
 اسمع منّي سماعَ من يريدُ أن يتواصَّ معك و يَشدُّ على يدَيْك لتبلغَ هذه المنزلةَ، فلستُ بأفضلَ منك و لا أعلمَ ، و لكنّ اللهَ أوصاني و أوصاك فقال :( و تَوَاصَوْا بالحَقّ و تَوَاصَوْا بالصَّبْرِ )
الإخلاصُ في كلِّ شيءٍ هو جوهرُه و بيتُ القصيدِ فيه وسرُّ العبوديّة لله ، فمن أخلصَ بورك في قليله وبلغ القمّةَ و إن كان يمشي رويدا ، و يسبقُ الفارغين و مَن خَلَتْ قلوبهم منه فتنزَّلُ عليه بركاتُ التّوفيقٍ و يُسخِّرُ اللهُ لهُ الزّمنَ ، و يَطْهُرُ قلبُه فما من فائدةٍ إلّا وترسَخُ في فؤاده. 


ثمّ ليَعتزِلِ النّاسَ و لْيحافظْ على قلبه أن يتلوّث بدَخَنِ النّاس ، فالعلمُ ثقيلٌ كثيرٌ فضُنَّ بوقتك أن تهدِرَهُ مع من لا يعودُ لقاؤك به بفائدةٍ ، فالهَميمُ بخيلٌ بوقته ..
قَلّبِ النّظرَ في سير العلمِ لا تجدُ منهم من بلغ الرّسوخَ إلاّ وله من الرّحلاتِ في طلب العلم ما يجعلُه غريبا في كلِّ بلدٍ يلتمسُ علمًا ، ليس له مع عامّة الناس شأنٌ ، و لكنْ شأنُه كلُّه أن يلاقي عالما  ينهلُ من معينِه أو يعلوَ بسنده...
ليس له من وقته إلّا ما كان للعلم و مع العلم ، و من أجل ذلك  لُعِنَتِ الدّنيا , ففي الحديث : "الدّنيا ملعونةٌ ملعونٌ من فيها إلّا ذكرُ الله و ما والاه أو عالم أو متعلم ، وقد سُئِلَ مالكٌ عن رجلٍ حُكمَ عليه بالقتل : ما يفعل حتى يَحين قتله ؟ قال: يطلب علما !!؟
و قد ارتحل كثيرٌ من السلف كجابرِ بنِ عبد الله و عبدِ الله بن أنيس رضي الله عنهما لأجل حديث واحد فقط...
و ليس المرادُ أن تكونَ الرّحلة حسّيّة فحسب ، فالدّنيا أصبحت على غير عهدها ولكنْ عزلةُ النّاس و الرحلةُ إلى أهل العلمِ قائمةٌ و سمِّها إن شئتَ عزلةَ و رحلةَ شعوريّةً ، تتّخذُ من بيتك صومعةً  تعتكفُ فيها مع أهل العلم و كتُبِهِم ومسموعاتهم ، سيرحلون بك إلى زمنٍ إنْ أشعرَك اللهُ بلذّتِه رجعتَ على قومك و زمنِك بالمَلَلِ والسَّآمة فلا تجدُ في نفسِك حينها حبًّا ولا ميلًا لشيءٍ إلا لّهُمْ[1] ..
فهذه التّضحيةُ تُضاف إلى شرائطِ الرّسوخ...
فَلْتَهُنْ عليك نفسُك في سبيل هذا المجدِ و حَطّمْ قيودَ الأرض ولا تخلدْ إليها  ولا تّركنْ إلى المُتقاعسينَ و لا إلى السّاكتين عنِ الحقِّ فيمسَّكَ الهوانُ و تَلحقَكَ الذّلةُ .
ثم عليك بالحفظِ يا طالبَ العلم ، فبَوْنٌ شاسعٌ بين من استودع قلبَه علمَهُ و بينَ رجلٍ مستودَعُه الكتبُ ، فالرّاسخُ في العلم يحملُ معهُ علمَهُ و يستحضِرُه ُ متى شاءَ  ويكونُ بذلك عزيزًا ، و تأمّلْ قصّة أبي حامد الغزَّالي حين اعتدى عليه مجموعةٌ من اللّصوص  وهَمُّوا أن يأخذوا كلّ متاعِه، فتوسّلَ إليهم أن يتركوا كتبَه ، فنظرَ إليه اللّصُ مُزدريًا..وقال: بئسَ طالبُ العلم أنت..!!  لو كنتَ عالمًا لحفظتَها..فتأثّر الغزالي وعرَف عزّةَ الحفظ فعزم أن يحفظَ ما يتعلّمُه.
و سوقُ الحقّ اليومَ كاسدةٌ يدخلها فئامٌ من النّاس منهم مَن عَلِمَ الحقّ و أضمَرَهُ ولم يُبدِه ، توجَّسَ من المخالفِ خيفةً ، وقَعَدَتْ به همّتُه عن إعلاء الحقّ ، فهذا في هوانٍ، و منهم من عَلِمَ الحقَّ وأدركَه و لكنْ أعجزَهُ عن نشرِه قلّةُ علمٍ أو ضَعْفُ أسلوبٍ و حجّةٍ تُفصِحُ عمّا في قلبه فعسى أن يُؤْجرَ .
 و أهْوَنُ القومِ و أخسُّهم مَنْ عرَفَ الحقَّ و أدركَهُ و لكنّه لم يّبُثَّهُ لأنّه خالفَ هَواهُ ،  فهذا من شرِّ الناَس فإذا أتْبَعَ موقَفَهُ هذا بمحاربةِ مَنْ نطقَ بالحقِّ ، فلا أُرَاهُ إلّا شيطانًا في مِسلاخ بشر!!

أيّها القارئُ الحبيبُ : إن أردت أن أصوّرَ لك بعضَ مظاهر الرّسوخ في العلم لِيتجلّى لك منه ما يشّجِعُك عليه أو تعرفَ مقامَك منه فتلزمَه ، فإليك من المثال ما يُقرّبُ المقال :
هذا محمّدُ بنُ عبد الوهّابِ إمامٌ مصلحٌ مُجددٌ ، جَدّدَ الملّةَ و بثّ روحَ التّوحيد في الأمّة ، عَمَدَ إلى أصل الإسلام وهو توحيدُ الألوهيّة ، فألّفَ فيه مؤلّفاً بسيطًا في مضمونه حوى آياتٍ و أحاديثَ و بعضَ الاستنباطاتِ ، ثم عَمدَ إلى الأسئلة التي لا ينجو منها بشرٌ قطّ في قبره ، فسمّاها الأصولَ الثّلاثةَ ، ثم عمدَ إلى دحضِ شُبَهِ أهل القبور ، و اختصرَ كتاباً في سيرة النّبي  -صلى الله عليه وآله و سلم- لتكونَ منهاجًا للمسلم ، و كلُّ مؤلّفاتِه بسيطةٌ و عظمتُها في بساطتها لأنّها توافق الفطرة التي فطر اللهُ عليها النّاس ، و لعلّه قد وُجِد في زمانه من هو أعلمُ منه ، و لكنّه كان أكثرَ رسوخاً منهم إذْ دعا إلى الحقّ و جاهدَ في سبيله و صبرَ على تبليغهِ ، فلا يستوي هُو ومَنْ عَلِمَهُ و لَزِمَ الصّمْتَ...
و كم مِنْ رَجلٍ بسيطٍ في العلم قد أُوتِيَ غيرةً و شجاعةً في الصّدع بالحقّ  ، فكان فيه من رسوخِ العلم بمقدار ذلك.. إذا تقرّرَّ عندك هذا عَلِمتَ –علّمك الله الخير - فقه حديث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-  لمّا استعاذ من علم لا ينفع فسمّاه علمًا غير أنه لم ينفع ، إذ لم يُؤْتِ ثمارَه و لذا قال بعض العلماء :(  الأمرُ بالمعروف و النهي ُ عن المنكر زكاةُ العلم ) . و الزّكاةُ واجبةٌ !! فمن تكلّم بالحقّ حيثُ سكتَ  عنه الآخرون كان أعلمَ من السّاكت وأكثر رسوخًا منه ، فأنطَقُهم بالحقّ أرسّخُهُمْ علمًا.

ولعلّك أن تبذلَ علمًا بسيطا مع بركةِ إخلاصك فتزدهرَ آخرتُك : رأى أحدُهم الخليلَ بن أحمد َ الفراهيدي في المنام فسأله : ما فعلَ اللهُ بك ؟ قال: أدخلَني ربّي الجنّة . قال : بِمَ ؟ قال علّمْتُ عجوزا الفاتحة !! مع أنّ الخليل من عباقرة الدّنيا و يكفيه عظمةً تأسيسُه لعلم العروض و إنشاؤه أوّلَ معجمٍ للعرب : معجم العين...
وخذ هذا المظهرَ من الرّسوخ حين يبلغُ بصاحبه مبلغًا يجعلُه يصمُتُ أمام أساطين العلم  إذا حلَّتْ فتنةٌ بالمسلمين و اختلط الحقّ بالباطل ، وغشيَ الحقَّ ليلٌ حَجَبَهُ عن الظّهور المُبين , تجدُ العلماء الأكابرَ يصمُتُون و للنّاس يسْعَوْنَ واعِظِينَ مذكّرِين بالتّوبةِ و العَودَةِ إلى هديِ السّلفِ و منهجِ النّبوّةِ فيصمتُ من يرى نفسَه دون ذلك وصَمْتُهُ حينذاك رسوخٌ في العلم !! و إنزالٌ لنفسه منزلتَها ، ألا ترى أنّ العلماءَ قالوا :” مَن قال لا أدري فقد أفتى !؟ فمع أنّه قال العَدَمْ ! إلا أنّ ذلك عينُ الحكمة، و الله تعالى يقول : (و لا تَقْفُ ما ليسَ لك به علمٌ) 
قالوا هذا غيرُ جائزٍ عندنا ** و من أنتم حتى يكونَ لكم عندُ ..!!؟

حلّتْ بالمسلمين بعد وفاة النبي -صلى الله عليه و آله و سلم- فتنةٌ عظيمةٌ  وهي مقتلُ عثمانَ -رضي الله عنه- وتَبِعَتهَا موقِعَةُ صفّين  و الصّحابةُ حينها عشرةُ آلافِ صحابيٍّ ، فما شارك فيها إلا نحوُ مائةِ صحابيٍّ وقيلَ ثلاثين  !!! و الباقي اعتزلوها وصمَتوا ، و منهم مَنْ كان من أهل الشّورى كسعدِ بن أبي وقّاصٍ  ، فليس ذلك منهم عيٌّ وجبنٌ ، بلْ حكمةٌ و رسوخٌ ..دونَك فاعجبْ .
قال صاحبنُا و حبيبُنا : فارس الحمادي أبو العباس : "فالواجبُ على طلبة العلم اليومَ الهربُ كلَّ الهرب منَ الخَوض في النّوازل ، والسّياسة ، والجدال. وعليهم بالرّسوخ في العِلم ! وأمّا إنكارُ المنكر فيكونُ بعلمٍ ودليلٍ وبيّنةٍ ، وقبلَ كلِّ هذا يكونُ بـإخْــلاصٍ! ولا يكونُ بسخريةٍ وزخرفةِ كلامٍ ! ليس هذا من شيَمِ أهلِ الحقِّ...!
قال  : ((مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ))... و تذكّروا قول العالم الرّبّاني الذي كان يَخشى على نفسه الفتنة و يخشى ذلك على الأمة...سئلَ عن سورية و ما يحدث... قال كلمة و لم يزد ، قال :” فِـتْـنَـةٌ" ! أي لا يُعرَفُ فيها الحقُّ من الباطل ...إ.هـ

فإذا رأيتَ طالبَ العلم الغُمرَ يزاحمُ الكبارَ فيما لا يُحسِنُه ، و يتقدّمُ عليهم مُفاخِرًا بعلمه فانْبُذْهُ و لا تلتفتْ إليه ، و قُلْ لَهُ ما قالتْهُ العربُ من قبلُ بصيغة المؤنّث !! : مَكانَكِ تُحمَدي أو تستريحي .... و السّلامُ .

و كتب حامدًا لربِّه مُصليًّا على نبيّه..

أبو الفضل الأندَلسيّ


(تفضّل الشيخ الدكتور محمد هشام الطاهري (أبو صلاح)  بقراءة المقال فصحح لي الاخطاء و صوّبها لي ، فاستفدتُ وتعلّمت منه ، جزاه الله عني  كل خير)





[1]             - المقصود: تجد ميلا وحبا للعلماء من خلال اعتكافك على علمهم، وهجرك لقومك وزمنك...

No comments:

Post a Comment